فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، {قَالُواْ سلاما قَالَ سلام}، كلاهما سلام، إلا أن الأول صار نصبًا، لوقوع الفعل عليه؛ والآخر رفعًا بالحكاية.
ومعناه: قال: قولًا: فيه سلام.
وقرأ حمزة، والكسائي: {قَالُواْ سلاما قَالَ سلام} بكسر السين، وسكون اللام، يعني: أمري سلم، ما أريد إلا السلامة.
{فَمَا لَبِثَ} يعني: فما مكث: {أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} قال السِّدِيّ: الحنيذ السمين، كما قال في آية أُخرى: {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26] ويقال: حنيذ، يعني: نضيج.
ويقال: المشوي الذي يقطر منه الدسم.
وقال أهل اللغة بأجمعهم: الحنيذ، المشوي بغير تنور، وهو أن يتخذ له في الأرض حنذًا، فيلقى فيه.
قال مقاتل: إنما جاءهم بعجل، لأنه كان أكثر ماله البقر، فلما قربه إليهم ووضع بين أيديهم كفوا ولم يأكلوا، ولم يتناولوا منه.
{فَلَماَّ رَأَى} إبراهيم: {أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} يعني: لا تصل إلى الطعام: {نَكِرَهُمْ} يقول: أنكرهم: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} يعني: وأضمر منهم خوفًا، حيث لم يأكلوا من طعامه، وظن أنهم لصوص.
وذلك أنه في ذلك الزمان إذا لم يأكل أحد من طعام إنسان، يخاف عليه عائلته، {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} بهلاكهم.
وقال السدي: لما لم يأكلوا من الطعام، قال لهم إبراهيم: ما لكم لا تأكلون طعامي؟ قالوا: إنا قوم لا نأكل طعامًا إلا بثمن.
فقال إبراهيم: إن لطعامي ثمنًا، فأصيبوا منه.
قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله عليه في أوله، وتحمدونه في آخره.
فقال جبريل لميكائيل: حق له أن يتخذه الله خليلًا.
قوله تعالى: {وامرأته قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} وفي الآية تقديم، يعني: بشرناها بإسحاق، فضحكت سرورًا.
ويقال: ضحكت تعجبًا من خوف إبراهيم، ورعدته في حشمه، وخدمه، ولم يخف، ولم يرتعد من نمرود الجبار حين قذفه في النار، وهذا قول القتبي.
وقال عكرمة: ضحكت، يعني: حاضت.
يقال: ضحكت الأرنب، إذا حاضت.
وغيره من المفسرين يجعلها الضحك بعينه، وكذلك هو في التوراة.
قرأت فيها أنها حين بشرت بالغلام، ضحكت في نفسها، وقالت: من بعد ما بليت، أعود شابة؟ وقال قتادة: ضحكت من أمر القوم، وغفلتهم، وجبريل جاءهم بالعذاب، يعني: قوم لوط: {فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} قال الشعبي: الوراء، ولد الولد.
وروى حبيب بن أبي ثابت، أن رجلًا دخل على ابن عباس، ومعه ابن ابنه، فقال له: من هذا؟ فقال ابن ابني.
فقال: ابنك من وراء فوجد الرجل في نفسه، فقرأ ابن عباس: {وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} وقال مقاتل: يعني: ومن بعد إسحاق يعقوب. وقال أبو عبيدة: الوراء ولد الولد.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم في رواية حفص، بنصب الباء، وقرأ الباقون بالضم.
فمن قرأ بالضم، فهو على معنى الابتداء، يعني: ويكون من وراء إسحاق، يَعْقُوبُ.
ومن قرأ بالنصب، فهو عطف على الباء في قوله: {بإسحاق} فيكون في موضع الخفض، إلا أنه لا ينصرف.
{قَالَتْ يا أيها ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا} يعني: عقيمًا لم ألد قط، وقد كبرت في السن، {وهذا بَعْلِى شَيْخًا} قال الكلبي: كانت سارة بنت ثمان وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، أكبر منها بسنة.
وقال الضحاك: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وسارة بنت تسع وتسعين سنة، {إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ} أي: لأمر عجيب: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} يعني: من قدرة الله: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ} يعني: نعمته وسعادته عليكم، {أَهْلَ البيت} يعني: يا أهل البيت.
ويقال: أتعجبين؟ أي ألا تعلمين أن رحمة الله، وبركاته عليكم، أن يستخرج الأنبياء كلهم من هذا البيت؟ وقال السدي: أخذ جبريل عودًا من الأرض يابسًا، فدلكه بين أصبعيه، فإِذا هو شجرة تهتز، فعرفت أنه من الله تعالى.
ثم قال: {إِنَّهُ حَمِيدٌ} في فعاله، ويقال: حميد لأعمالكم، {مَّجِيدٌ} يعني: شريف. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى}.
أما إبراهيم ففيه وجهان:
أحدهما: أنه اسم أعجمي، قاله الأكثرون. وقيل معناه أب رحيم.
الثاني: أنه عربي مشتق من البرهمة وهي إدامة النظر.
والرسل جبريل ومعه ملكان قيل إنهما ميكائيل وإسرافيل عليه السلام وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان المرسل مع جبريل اثني عشر ملكًا.
وفي البشرى التي جاءوه بها أربعة أقاويل:
أحدها: بشروه بنبّوته، قاله عكرمة.
الثاني: بإسحاق، قاله الحسن.
الثالث: بشروه بإخراج محمد صلى الله عليه وسلم من صلبه وأنه خاتم الأنبياء.
الرابع: بشروه بهلاك قوم لوط، قاله قتادة.
{قالوا سلامًا قال سلامٌ} فيه وجهان:
أحدهما تحية من الملائكة لإبراهيم عليه السلام فحياهم بمثله فدل على أن السلام تحية الملائكة والمسلمين جميعًا.
الثاني: سلمت أنت وأهلك من هلاك قوم لوط.
وقوله: {سلام} أي الحمد لله الذي سلّمني، فمعنى سلام: سلمت. وقرأ حمزة والكسائي: {سِلم} بكسر السين وإسقاط الألف.
واختلف في السلم والسلام على وجهين: أحدهما: أن السلم من المسالمة والسلام من السلامة.
الثاني: أنهما بمعنى واحد، قال الشاعر، وقد أنشده الفراء لبعض العرب:
وقفنا فقلنا إيه سِلْم فسَلّمَتْ ** كما اكتلَّ بالبرْقِ الغمامُ اللوائحُ

{فما لبث أن جاء بعجل حنيذ} ظنَّ رُسُل ربه أضيافًا لأنهم جاؤُوه في صورة الناس فعجل لهم الضيافة فجاءهم بعجل حنيذ. وفي الحنيذ قولان:
أحدهما: أنه الحار، حكاه أبان بن تغلب عن علقمة النحوي.
الثاني: هو المشوي نضيجًا وهو المحنوذ مثل طبيخ ومطبوخ وفيه قولان:
أحدهما: هو الذي حُفر له في الأرض ثم غُمَّ فيها، قال الشاعر:
اذا ما اعتبطنا اللحم للطالب القِرى ** حنذناه حتى عَين اللحم آكله

الثاني: هو أن يوقد عل الحجارة فإذا اشتد حرها ألقيت في جوفه ليسرع نضجه، قال طرفة بن العبد:
لهم راحٌ وكافور ومسكٌ ** وعِقر الوحش شائله حنوذ

قوله عز وجل: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم} في نكرهم وأنكرهُم وجهان:
أحدهما: أن معناهما مخلتف، فنكرهم إذا لم يعرفهم ونكرهم إذا وجدهم على منكر.
الثاني: أنهما بمعنى واحد، قال الأعشى:
وأنكَرَتْني وما كان الذي نكرت ** من الحوادث إلا الشيب والصّلَعا

واختلف في سبب إنكاره لهم على قولين:
أحدهما: أنهم لم يطعموا، ومن شأن العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم ظنوا به سوءًا وخافوا منه شرًا، فنكرهم إبراهيم لذلك، قاله قتادة. والثاني: لأنه لم تكن لهم أيدي فنكرهم، قاله يزيد بن أبي حبيب. وامتنعوا من طعامه لأنهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون.
{وَأَْوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} فيه وجهان:
أحدهما: أضمر في نفسه خوفًا منهم.
والثاني: أحسّ من نفسه تخوفًا منهم، كما قال يزيد بن معاوية:
جاء البريد بقرطاس يُخَبُّ به ** فأوجس القلبُ من قرطاسه جزعا

{قالوا لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط} يعني بهلاكهم. وفي إعلامهم إبراهيم بذلك وجهان:
أحدهما: ليزول خوفه منهم.
والثاني: لأن إبراهيم قد كان يأتي قوم لوط فيقول: ويحكم أينهاكم عن الله أن تتعرضوا لعقوبته فلا يطيعونه: {وَامْرأَتُهُ قَائِمَتٌ فَضَحِكَتْ} وفي قيامها ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلامهم، قاله وهب.
الثاني: أنها كانت قائمة تخدمهم، قاله مجاهد.
الثالث: أنها كانت قائمة تُصَلّي، قاله محمد بن إسحاق: {فَضَحِكَتْ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يعني حاضت، قاله مجاهد والعرب تقول ضحكت المرأة إذا حاضت، والضحك الحيض في كلامهم، قال الشاعر:
وضحك الأرانب فوق الصفا ** كمثل دم الخوف يوم اللّقا

والثاني: أن معنى ضحكت: تعجبت، وقد يسمى التعجب ضحكًا لحدوث الضحك عنه، ومنه قول أبي ذؤيب.
فجاء بمزجٍ لم ير الناس مثله ** هو الضحك إلاّ انه عمل النحل

الثالث: أنه الضحك المعروف في الوجه، وهو قول الجمهور.
فإن حمل تأويله على الحيض ففي سبب حيضها وجهان: أحدهما: أنه وافق وقت عاتها فخافت ظهور دمها وأرادت شداده فتحيرت مع حضور الرسل.
والقول الثاني: ذعرت وخافت فتعجل حيضها قبل وقته، وقد تتغير عادة الحيض باختلاف الأحوال وتغير الطباع.
ويحتمل قولًا ثالثًا: أن يكون الحيض بشيرًا بالولادة لأن من لم تحض لا تلد.
وإن حمل تأويله على التعجب ففيما تعجب منه أربعة أقاويل:
أحدها: أنها تعجبت من أنها وزوجها يخدمان الأضياف تكرمة لهم وهم لا يأكلون، قاله السدي.
الثاني: تعجبت من أن قوم لوط قد أتاهم العذاب وهم غافلون، قاله قتادة.
الثالث: أنها عجبت من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها، قاله وهب بن منبه.
الرابع: أنها تعجبت من إحياء العجل الحنيذ لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار، قاله عون بن أبي شداد.
وإن حمل تأويله على ضحك الوجه ففيما ضحكت منه أربعة أقاويل:
أحدها: ضحكت سرورًا بالسلامة.
الثاني: سرورًا بالولد. الثالث: لما رأت ما بزوجها من الورع، قاله الكلبي.
الرابع: أنها ضحكت ظنًا بأن الرسل يعملون عمل قوم لوط، قاله محمد بن عيسى.
{فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} وفي: {وراء} هاهنا قولان:
أحدهما: أن الوراء ولد الولد، قاله ابن عباس والشعبي.
الثاني: أنه بمعنى بعد، قاله مقاتل، وقال النابغة الذبياني:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراءَ اللهِ للمرء مذهبُ

فعجلوا لها البشرى بالولدين مظاهرة للنعمة ومبالغة في التعجب، فاحتمل أن يكون البشارة بهما باسميهما فيكون الله تعالى هو المسمى لهما، واحتمل أن تكون البشارة بهما وسماها أبوهما.
فإن قيل: فلم خصت سارة بالبشرى من دون إبراهيم؟
قيل عن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنها لما اختصت بالضحك خصت بالبشرى.
الثاني: أنهم كافأُوها بالبشرى مقابلة على استعظام خدمتها.
الثالث: لأن النساء في البشرى بالولد أعظم سرورًا وأكثر فرحًا.
قال ابن عباس: سمي إسحاق لأن سارة سحقت بالضحك حين بشرت به.
قوله عز وجل: {قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شيخا} لم تقصد بقولها يا ويلتا الدعاء على نفسها بالويل ولكنها كلمة تخفُّ على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه، وعجبت من ولادتها وهي عجوز وكون بعلها شيخًا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر.
واختلف في سنها وسن إبراهيم حينئذ، فقال مجاهد: كان لسارة تسع وتسعون سنة وكان لإبراهيم مائة سنة.
وقال محمد بن إسحاق: كانت سارة بنت تسعين سنة وكان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة.
وقال قتادة: كان كل واحد منهما ابن تسعين سنة. وقيل انها عرّضت بقولها: {وهذا بعلي شيخًا} عن ترك غشيانه لها، والبعل هو الزوج في هذا الموضع، ومنه قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردّهن في ذلك} [البقرة: 228].
والبعل: المعبود، ومنه قوله تعالى: {أتدعون بعلًا} [الصافات: 125] أي اليها معبودًا.
والبعل السيد، ومنه قول لبيد.
حاسري الديباج عن أذرعهم ** عند بعل حازم الرأي بَطل

فسمي الزوج بعلًا لتطاوله على الزوجة كتطاول السيد على المسود.
{إن هذا لشيء عجيب} أي منكر، ومنه قوله تعالى: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} [ق: 2] أي أنكروا. ولم يكن ذلك منها تكذيبًا ولكن استغرابًا له. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا}
{الرسل} الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقالت فرقة: بدل إسرافيل عزرائيل- ملك الموت- وروي أن جبريل منهم كان مختصًا بإهلاك قرية لوط، وميكائيل مختصًا بتبشير إبراهيم بإسحاق. وإسرافيل مختصًا بإنجاء لوط ومن معه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية تقضي باشتراكهم في البشارة بإسحاق وقالت فرقة- وهي الأكثر- {البشرى} هي بإسحاق. وقالت فرقة: {البشرى} هي بإهلاك قوم لوط.
وقوله: {سلامًا} نصب على المصدر، والعامل فيه فعل مضمر من لفظة كأنه قال: أسلم سلامًا، ويصح أن يكون: {سلامًا} حكاية لمعنى ما قالوه لا للفظهم- قاله مجاهد والسدي- فلذلك عمل فيه القول، كما تقول- الرجل قال: لا إله إلاَّ الله- قلت حقًا أو إخلاصًا؛ ولو حكيت لفظهم لم يصح أن تعمل فيه القول وقوله: {قال سلام} حكاية للفظه، و: {سلام} مرتفع إما على الابتداء، والخبر محذوف تقديره عليكم، وإما على خبر ابتداء محذوف تقديره أمري سلام، وهذا كقوله: {فصبر جميل} [يوسف: 18] إما على تقدير فأمري صبر جميل، وإما على تقدير: فصبر جميل أجمل.